فصل: تفسير الآيات (31- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (31- 41):

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)}
يقول الحق جل جلاله: {ثم أنشأنا من بعدهم}؛ من بعد قوم نوح {قرناً} أي: قوماً {آخرين} هم عادٌ قوم هود، حسبما رُوي عن ابن عباس، ويشهد له قوله تعالى: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69]، ومجيء قصة هود على إثر قصة نوح في الأعراف وهود والشعراء، ونقل ابن عطية عن الطبري: أن المراد بهم ثمود قوم صالح، قال: والترتيب يقتضي قوم عاد، إلاَّ أنهم لم يُهلكوا بالصيحة، بل بالريح، قال في الحاشية: والظاهر أنهم صالح. كما قاله الطبري. وحمل الواحدي الصيحة على صيحة العذاب، فيتجه لذلك أنهم عاد قوم هود، وقد تقرر أن ثمود بعد عاد. ثم قال: وفي السيرة: عادٌ بن عوص بن إرَم بن سام بن نوح، وثمود بن عابر بن أرَم بن سام بن نوح. اهـ.
{فأرسلنا فيهم}، الإرسال يُعَدّى بإلى، ولم يُعَدَّ بها هنا وفي قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ} [الرعد: 30]، {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ} [الأعراف: 94]؛ لأن الأمة والقرية جعلت موضعاً للإرسال، إيذاناً بأن المرسَل إليهم لم يأتهم من غير مكانهم، بل إنما نشأ بين أظهرهم، كما ينبئ عنه قوله: {رسولاً منهم} أي: من جملتهم نسباً، وهو: هود أو صالح، فإنهما- عليهما السلام- كانا منهم. قائلاً لهم: {أنِ اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيرهُ أفلا تتقون} عذابه، الذي يقتضيه ما أنتم عليه من الشرك والمعاصي.
{وقال الملأُ من قومه}، ذكر مقال قوم هود، في جوابه، في الأعراف وهود بغير واو؛ لأنه على تقدير سؤال سائل، قال: فما قال قومه؟ فقيل: قالوا: كيت وكيت، وهنا مع الواو؛ لأنه عطفٌ لما قالوه على ما قاله الرسول؛ ومعناه: حكاية قولهم الباطل إثر حكاية قول الرسول الحق، وليس بجواب للنبي متصل بكلامه، وجيء بالفاء في قصة نوح عليه السلام؛ لأنه جواب لقوله، واقعٌ عَقِبَه،، أي: وقال الأشراف من قومه {الذين كفروا}، وُصفوا بالكفر؛ ذَماً لهم، وتنبيهاً على غُلوِّهم فيه، {وكذَّبوا بلقاء الآخرة} أي: بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك، أو بمعادهم إلى الحياة الثانية، {وأترفناهم}: نَعَّمناهم {في الحياة الدنيا} بكثرة الأموال والأولاد، أي: قالوا لأتباعهم، مُضلين لهم: {ما هذا} النبي {إلا بشرٌ مثلُكم} في الصفة والأحوال، والاحتياج إلى القِوام، ولم يقولوا: مثلنا؛ تهويناً لأمره عليه السلام.
ثم فسر المثلية بقوله: {يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون} أي: منه، فحذف؛ لدلالة ما قبله عليه، {ولئن أطعتم بشراً مثلكم} فيما يأمركم به وينهاكم عنه، {إنكم إذاً لخاسرون} بالانقياد لمثلكم، ومن حمقهم أنهم أبَوْا اتِّباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم.
{أَيعدُكُمْ أنكم إِذا مِتُّم}- بالكسر والضم-؛ من مات يُمات ويموت، {وكنتم تراباً وعظاماً} نخرة، {أنكم مُخْرَجُون}، فأنكم الثانية، توكيد للأولى؛ للفصل بينهما، والتقدير: أيعدكم أنكم مخرجون بالبعث إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً؟ {هيهات هيهاتَ}، تكرير؛ لتأكيد البُعد، وهو اسم فعل مبني على الفتح، واقع موقع بَعُد، فاعلها مضمر، أي: بعد التصديق أو الوقوع {لِما تُوعدون} من العذاب، أو فاعلها: {ما توعدون}، واللام زائدة، أي بَعُد ما تعدون من البعث، وقيل: ما توعدون من البعث.
وقيل: مبتدأ، وهما اسم للبعد، و{لما توعدون}: خبر، أي: بُعْدٌ بُعْدٌ لما توعدون، {إن}: ما {هِيَ إلا حياتنا الدنيا}، والضمير لا يُعْلَمُ ما يُغْنَى به إلا بما بعده من بيانه، وأصله: إن الحياةُ إلا حياتنا، وأتى بالضمير؛ حذراً من التكرير، أي: لا حياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها، ودنت منها، {نموت ونحيا} أي: يموت بعضنا ويولد بعضٌ، إلى انقراض العصر، {وما نحن بمبعوثين} بَعد الموت، {إن}؛ ما {هو إلا رجل افترى على الله كَذِباً} فيما يدَّعيه من الإرسال، وفيما يَعدنا من البعث، {وما نحن له بمؤمنين}: بمصدِّقين بما يقول.
{قال} هود، أو صالح- عليهما السلام- بعدما سلك في دعوتهم كل مسلك، متضرعاً إلى الله- عز وجل-: {ربِّ انصرني} عليهم، وانتقم منهم {بما كذَّبونِ} أي: بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه، {قال} تعالى؛ إجابة لدعائه: {عمَّا قليلٍ} أي: عن زمان قليل، زيدت ما، بين الجار والمجرور؛ لتأكيد معنى القلة، أو نكرة موصوفة، أي؛ عن شيء قليل {ليصبِحُنَّ نادمين} عما فعلوا عن التكذيب، وذلك عند معاينتهم العذاب.
{فأخذتهم الصيحةُ}، لعلهم، حين اصابتهم الريح العقيم، أُصيبوا في تضاعيفها بصيحة هائلة من صوته. أو يراد بها: صرير الريح وصوته. وقد رُوي أن شَدَّاداً حين أتم بناء إرم، سار إليها بأهله، فلما دنا منها بعث الله عليهم صيحة من السماء، فهلكوا، وقيل: الصيحة: العذاب المصطلِم، قال الشاعر:
صَاحَ الزَّمانُ بآلِ فُدَكٍ صيَحةً ** خَرُّوا لشِدَّتها على اْالأَذْقَانِ

وإذ قلنا: هم قوم صالح، فالصيحة صيحة جبريل عليه السلام، صاح عليهم فدمرهم. وقوله: {بالحق} أي: بالعدل من الله، يقال: فلان يقضي بالحق، أي بالعدل، أو: أخذتهم بالحق، أي: بالأمر الثابت الذي لا دفاع له، {فجعلناهم غُثاء} أي: كغثاء السيل، وهو ما يحمله من الورق والحشيش، شبههم في دمارهم بالغثاء، وهو ما يرميه السيل، من حيث أنهم مَرْمِي بهم في كل جانب وسَهْب. {فبُعداً}: فهلاكاً، يقال بَعُدَ بُعْداً، أي: هلك هلاكاً، وهو من المصادر المنصوبة بأفعال لا تظهر أفعالها، أي: فسحقاً {للقوم الظالمين}، وهو إخبار، أو دعاء، واللام؛ لبيان من دُعي عليه بالبُعد، كقوله: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من عادة الحق- سبحانه-، إذا أكب الناس على دنياهم، واتخذوا إلههم هواهم، بعث من يذكرهم بالله، فيقول لهم: اعبدوا الله، ما لكم من إله غيره، أي: أفردوه بالمحبة، واقصدوه بالوجهة، فما عبدَ الله من عبد هواه، فيقول المترفون، وهم المنهمكون في الغفلة، المحجوبون بالنعمة عن المنعم، الذين اتسعت دائرة حسهم: ما هذا الذي يعظكم، ويريد أن يخرجكم عن عوائدكم، ألا بشر مثلكم، يأكل مما تأكلون، ويشرب مما تشربون، وما دَروا أنَّ وصف البشرية لا ينافي وجود الخصوصية، فإذا تمادوا في غفلتهم، وأيس من هدايتهم، ربما دعا عليهم، فأصبحوا نادمين، حين لا ينفعهم الندم، وذلك عند نزول هواجم الحِمَامِ. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (42- 44):

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)}
قلت: القرن: أهل العصر، سُموا به؛ لِقران بعضهم البعض، و{تترا}: حال، فمن قرأه بالألف فهو كسكرى، وهو من الوتر، واحداً بعد واحد، فالتاء الأولى بدل من الواو، وأصله: وَترى، كتراث وتقوى، والألف للتأنيث، باعتبار أن الرسل جماعة، ومن نَوَّنَه جعله كأرطى ومعزى، فيقال: أرطى ومعزى، وقيل: مصدر بمعنى فاعل، أي: متتابعين.
يقول الحق جل جلاله: {ثم أنشأنا من بعدهم} أي: من بعد قوم هود، {قروناً آخرين}؛ قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم، {ما تسبق من أمة}، {مِنْ} صلة، أي: ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة {أجلَها} الذي عُيِّن لهلاكها في الأزل، {وما يستأخرون} عنه ساعة. {ثم أرسلنا رسلَنا}، عطف على {أنشأنا}، على معنى أن إرسالهم متراخ عن إنشاء القرون المذكورة، وما بينهما اعتراض، والمعنى: ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين، قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولاً خاصاً به، والفصل بين الجملتين بالجملة المتعرضة الناطقة بعدم تقدم الأمم من أجلها المضروب لهلاكهم؛ للمسارعة إلى بيان هلاكهم على وجهٍ إجمالي.
وقوله: {تَتْرَى} أي: متواترين واحداً بعد واحد، أو متتابعين يتبع بعضهم بعضاً، {كلما جاء أمةً رسولها كذبوه}، الرسول يلابس المرسِل والمرسلَ إليه، والإضافة تكون بالملابسة، فأضافهم أولاً إلى نون العظمة، وهنا إلى المرسل إليهم؛ للإشعار بكمال شناعتهم وضلالتهم، حيث كذبت كلُّ أمةٍ رسولها المعين لها، وعبَّر عن التبليغ بالمجيء؛ للإيذان بأنهم كذبوه في الملاقاة الأولى، {فأتبعنا بعضَهم بعضاً} في الهلاك، كما تبع بعضهم بعضاً في الكفر والتكذيب، الذي هو سبب الهلاك، {وجعلناهم أحاديثَ}؛ أخبار، يُسمر بها ويُتعجب منها، أي: لم يبق منهم إلا حكايات يعتبر بها المعتبرون، والأحاديث يكون اسم جمع للحديث، ومنه: أحاديث النبي- عليه الصلاة والسلام- ويكون جمعاً للأحدوثة، وهي ما يتحدث بها الناس؛ تلهياً وتعجباً، وهو المراد هنا {فبعداً لقوم لا يؤمنون} به وبرسله اقتصر هنا على عدمإيمانهم وأما القرون الأولى فحيث نقل عنهم ما مرَّ من العتو وتجاوز الحد في الكفر والعدوان وصفهم بالظلم. والله تعالى أعلم وأحكم.
الإشارة: كل ما حكى الله تعالى عن القرون الماضية والأمم السابقة، فالمراد ترهيب هذه الأمة المحمدية، وإزعاجٌ لها عن أسباب الهلاك، وإنهاض لها إلى العمل الصالح، لتكون أحاديث حِساناً بين الأمم، فكل إنسان ينبغي له أن يجتهد في تحصيل الكمالات العلمية والعملية، ليكون حديثاً حسناً لمن بعده، كما قال القائل:
مَا الْمَرءُ إلا حديثٌ من بَعدِه ** فَكنْ حَديثاً حَسَناً لِمَن وَعَا

وقال آخر:
ومَا الْمَرءُ إلا كالشَّهابِ وضَوْؤهُ ** يَحورُ رَماداً بَعْدَما هو سَاطِعُ

ومَا المَالُ والأَهلْونَ إلا وديعةٌ ** ولابد يوماً أن تُردَّ الْودَائِعُ

وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (45- 49):

{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)}
قلت: {هارون}: بدل من {أخاه}.
يقول الحق جل جلاله: {ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا} التسع؛ من اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، ونقص الثمرات، والطاعون. ولا مساغ لعدّ فلق البحر منها؛ إذ المراد الآيات التي كذبُوها واستكبروا عنها، بدليل ما بعدها. {وسلطانٍ مبينٍ}؛ وحجة واضحة مُلزِمَة للخصم الإقرار بما دُعي إليه، وهي إمّا العصا، وإفرادها بالذكر مع اندراجها في الآيات؛ لأنها أبهر آياته عليه السلام، وقد تضمنت معجزات شتى؛ من انقلابها ثعباناً، وتلقفها ما أفكته السحرة، كما تقدم. وأما التعرض لانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر؛ بضربها، وحراستها، وصيرورتها شمعة، وشجرة خضراء مثمرة، ودلْواً ورشاء، وغير ذلك مما ظهر منها في غير مشهد فرعون وقومه، فغير ملائم لمقتضى المقام، وإمّا ما أتى به من الحجج الباهرة، فيشمل ما تقدم وغيره.
{إلى فرعون وملَئه} أي: أشراف قومه، خصهم بالذكر؛ ليرتب عليه ما بعده من قوله: {فاستكبروا} عن الإنقياد وتمردوا. تكبراً وترفعاً، {وكانوا قوماً عالين}: متكبرين، متمردين، {فقالوا}، فيما بينهم، على طريق المناصحة: {أنؤمن لبشَرَيْنِ مثلنا}، مثل وغير يوصف بها الإثنان والجمع والمذكر والمؤنث، والبشر يطلق على الواحد، كقوله: {بَشَراً سَوِياًّ} [مريم: 17]، وعلى الجمع، كقوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} [مريم: 26]، وأراد به هنا الواحد، فثناه، أي: كيف نؤمن لبشرين مثلنا في العجز والافتقار، {وقومهما لنا عابدون} أي: خادمون منقادون لنا كالعبيد، وكأنهم قصدوا بذلك التعريض بهما- عليهما السلام- وحط رتبتهما العلية عن منصب الرسالة من وجه آخر غير البشرية، بناء على زعمهم الفاسد، من قياس الرئاسة الدينية على الرئاسات الدنيوية، الدائرة على التقدم في نيل الحظوظ الدنيوية، من المال والجاه، كدأب قريش، حيث قالوا: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]. {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]. وعلى جهلهم بأن مناط الاصطفاء للرسالة هو السبق في حيازة النعوت العلية، وإحراز الكمالات السنية، جِبِلَّةً او اكتساباً، {فكذبوهما} أي: فتمادوا على تكذيبهما، وأصروا، واستكبروا استكباراً، {فكانوا من المهلَكِين} بالغرق في بحر القلزم.
{ولقد آتينا} بعد إهلاكهم، وإنجاء بني إسرائيل من مِلكِهم واسترقاقهم، {موسى الكتابَ}: التوراة، ولَمَّا نزلت لإرشاد قومه جُعلوا كأنهم أوتوها، فقيل: {لعلهم يهتدون} إلى الحق بالعمل بما من الشرائع والأحكام، وقيل: على حذف مضاف، أي: آتينا قوم موسى، كقوله: {على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83]، أي: من آل فرعون وملئهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من طُرد وأُبعد عن ساحة رحمة الله تعالى والوصول إليه، فإنما سببه التكبر والعلو، وكل من قرب ووصل إلى الله فإنما سببه التواضع والحنو، ولذلك ورد: «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كان في قَلْبِه مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» وحقيقة الكِبرِ: بَطَرُ الحَقِّ وغَمْطُ النَّاسِ، أي: إنكار الحق واحتقار الناس، وفي مدح التواضع والخمول ما لا يخفى. فمن تواضع، دون قدره، رَفَعَهُ الله فوق قدره، فالتواضع مصيدة الشرف، به يصطاد وينال، ومن أوصاف أهل الجنة: «كل ضعيف مستضعف، لو أقسم على الله لأبره في قسمه»، إلى غير ذلك من الأخبار.
وكل من أنكر على أهل الخصوصية فسببه إما الحسد، أو الجهل بأن الخصوصية لا تنافي أوصاف البشرية، أو قياس الرئاسة الباطنية الدينية على الرئاسة الدنيوية، فأسقط من لا رئاسة له في الظاهر ولا جاه، أو لعدم ظهور الكرامة، وهي غير مطلوبة عند المحققين. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (50):

{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)}
يقول الحق جل جلاله: {وجعلنا ابنَ مريَم وأمه آيةً} دالة على كمال قدرتنا؛ بولادته منها من غير مسيس بشر، ووحَّدها؛ لأن الأعجوبة فيهما واحدة. أو المراد: وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية، فحذفت الأولى؛ لدلالة الثانية عليها، أي: وجعلنا ابن مريم وحده، من غير أن يكون له أب، آية، وأمه، من حيث أنها وَلدت من غير ذَكَر، آية، وتقديمه عليه السلام؛ لأصالته فيما ذَكَر من كونه آية كما أن تقديم أمه في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91]، لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ.
{وآويناهما} أي: جعلنا مأويهما ومنزلهما {إلى ربوةٍ} أي: أرض مرتفعة، وهو بيت المقدس؛ فإنها كبد الأرض، وأقرب الأرض إلى السماء، بمعنى أنه يزيد علوها على علو الأرض، فينتقصُ بُعدها عن السماء عن بُعد غيرها منها بثمانية عشر ميلاً، كما جاء، ولعل ذلك سر كونها أرض الحشر، وكون الإسراء وقع منها. قاله المحشي، وقيل: دمشق، وقيل: فلسطين، والرملة. {ذات قرارٍ}؛ مستقر من الأرض، مستوية منبسطة، سهلة، أو ذات ثمار، يستقر؛ لأجل ثمارها، ساكنوها فيها، {ومَعِين} أي: ماء معين، ظاهر، جارٍ، فقيل: من معن، إذا جرى، أو مدرك بالعين لظهوره من عانه إذا أدركه بعينه أو من الماعون وهو النفع؛ لأنه نفاع لظهوره وجريه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كان عيسى عليه السلام منقطعاً عن هذا العالم، متبتلاً زاهداً، لم يتخذ في هذه الدنيا قراراً، ولم يبن فيها مسكناً ولا داراً، فكان آية للعباد والزهاد من الرجال. كما أن أمه كانت آية للنساء العابدات، في التبتل والانقطاع، فآواهما إلى ربوة التقريب والاصطفاء، ذات قرار وتمكين ومصافاة ووفاء، وجعل، جل جلاله، أولياءه على قدم أنبيائه، فمنهم على قدم نوح عليه السلام في القوة ونفوذ الهمة، مهما دعا على أحد هلك. ومنهم على قدم إبراهيم عليه السلام في الشفقة والرحمة وعلو الهمة، وتحقيق التوحيد، وإمام أهل التفريد، ومنهم على قدم موسى عليه السلام في المناجاة والمكالمة والقوة والعزم، ومنهم على قدم عيسى عليه السلام في الزهد والانقطاع، ومنهم على قدم نبينا محمد- عليه الصلاة والسلام-؛ وهو الجامع لما افترق في غيره، وهو قطب الدائرة، نفعنا الله بهم جميعاً.